تواجه الأحزاب اليوم تحدي تراجع الشعبية وبروز فاعلين جدد بنماذج نضالية جديدة تتفاعل بشكل أفضل مع مواطني القرن 21. وهذا ما يطرح نقاشا حور دور و نجاعة الأحزاب. من المؤكد أن الأحزاب سوف تبقى لتؤدي دورها ضمن الآليات الديمقراطية، لكن السؤال الذي يطرح هنا هو كيف ستؤدي هذا الدور؟
على الأحزاب أن تنجح في إثارة اهتمام المواطنين. و على غرار الأعمال و الشركات الحديثة التأسيس، يتعين على الأحزاب السياسية أن تجيب على أسئلة من قبيل: ماذا أقدم للمواطنين؟ أي مشروع؟ ما هي المشاكل التي أحلها؟ بماذا أتميز عن باقي الفاعلين؟
عندما يعرف حزب كيف يصيغ الإجابات المناسبة و المقنعة عن كل قضية يتبناها سوف ينجح في إثارة اهتمام المواطنين. و هنا تبدأ المهمة الحقيقية للحزب و هي كيف يترجم هذا الاهتمام الشعبي الذي نجح في إثارته إلى ورقة رابحة يحقق منها مكاسب على ثلاثة أصعدة: يغني السياسات الوطنية، و يقوي الحزب و يحقق نتائج انتخابية، فيكون بذلك خدم الوطن و قوى نفسه و خدم الديمقراطية.
و ليحقق هذه الأهداف الثلاثة عليه الاشتغال على أربعة محاور: الدفاع عن مبدأ العدالة الاجتماعية، احتضان الكفاءات المهمشة حاليا و إدماجها في المشاريع الحزبية لتفيد و تستفيد، و تكوين جيل الغد عن طريق دورات مخصصة أو في إطار المنظمة الشبابية للحزب ثم بالطبع نشر الآلة الانتخابية لتكسب تعاطف المواطنين الناتج عن هذا الاهتمام.
تبني مبدأ العدالة الاجتماعية
لنبدأ بالمحور الأول: قضية العدالة الاجتماعية و سوء توزيع الثروات. هذه القضية رغم أنها تتعلق بأكبر مشكل يعاني منه المواطنون، إلا أنها غير ظاهرة للناس. المواطن العادي لا يدرك أن استحواذ قلة قليلة على الثروة هي بيت الداء. هناك إذن مشكلة إدراك قبل أن تصبح مسألة إقناع. التحدي السياسي الأول هو إظهاره للعموم.
في البداية على السياسي أن يتساءل: لكن لماذا لا يدرك الناس أهمية التفاوت في الثروات؟ كيف نفهم بسبب عدم إدراكهم؟ و يبقى السبيل الوحيد لمعرفة السر هو الاتصال المباشر بالمواطنين. المناضلون يجرون استطلاعا مباشرا مع المواطنين في قلاعهم حسب المعطيات الديمغرافية، خصوصا الأماكن ذات القوة الانتخابية.
بعد الاتصال بالمواطنين و فهم أسباب عدم إحساس الناس بالقضية، يجب تكوين الحجج المقنعة من أجل صياغة خطاب مبسط و نافذ إلى الأذهان و القلوب في نفس الوقت. و تبدأ حملة التحسيس و التوعية.
نجاح الحملة يتوقف على حسن استغلال قنوات التواصل لإيصال الرسالة. لكن قبل ذلك يجب صياغة هذه الأخيرة كي تكون الحجج “دامغة”، و هذا يتوقف على جمعها لعناصر ستة: أن تحدث المفاجأة عند المتلقي ليهتم أكثر و أن تتسم بالمصداقية وهذا باعتماد طرح حقائق ملموسة و أن تصاغ ببساطة يفهمها كل الناس و أن تستعمل أسلوب القصص و تثير عواطف المتلقي.
لنأخذ مثالا في التعاطي مع هذه القضية: التفاوت في الثروات. حدثني أحد الشباب عن رسالة تتداول في وسائل التواصل الاجتماعي، مفادها أنه لو خصم البرلمانيون مبلغ عشرة آلاف درهم من مرتباتهم سوف يحل ذلك جزءا من أزمة البلاد. على التو كنت أخرج تطبيق الآلة الحاسبة على هاتفي لأرد على هذه الفكرة بالأرقام. و بعد إجراء عملية حسابية بسيطة، كنت أرد عليه: ” إن ما تقول يساوي 47 مليون درهم في السنة. لو قسمنا هذا المبلغ على 34 مليون فرد مغربي لكان نصيب كل واحد أقل من درهم و نصف لكل فرد”.
بالمقابل سألت الشاب: “هل تعلم أن هناك ثريا مغربيا ازدادت ثروته خلا العام الماضي فقط ب مليارين و 860 مليون درهم؟”. ماذا لو قسمنا هذا المبلغ على ما سيوفره خصم مليون سنتيم لكل برلماني؟ النتيجة: ستون. يعني هذا أن مساهمة ثري واحد تغني عن مساهمة كل برلمانيي البلاد ستين مرة. أو قل تغني عن مساهمة البرلمانيين لستين عاما. صرخ الشاب: “ناري لا علاقة” ثم قال: يجب أن أشرح هذا للأصدقاء.
ما يهمنا في هذه القصة هو أن الحجة توفرت فيها جل العناصر التي تحدثنا عنها أعلاه: المفاجأة، المصداقية، الحقائق الملموسة، البساطة و إثارة العواطف.
و الآن بعد أن تبينت قيمة صياغة حجج الإقناع الدامغة، نتحدث عن أهمية استغلال قنوات الاتصال بفاعلية.
و مرة أخرى أكثر القنوات فاعلية هي الاتصال المباشر مع المواطنين في المجال الترابي، يتبنى ممثلو الحزب في الدوائر و التنسيقيات القضية و يتبنون الرسالة كما تمت صياغاتها و يوصلوها إلى الفئات المختلفة من الناس و يناقشونهم مباشرة. و تبقى للإعلام التقليدي المسموع و المرئي و المكتوب مكانته في الاستهداف الجماهيري الواسع. أما شبكات التواصل الاجتماعي، فيمكن استعمالها في الاستهداف الموجه إلى فئة معينة.
ثم يجب وضع أدوات و مؤشرات لقياس تقدم الحملة، و تلك قصة أخرى…
احتضان الكفاءات المهمشة
من المؤسف أن يهجر المواطنون السياسة، لكن ما يدعو للحزن هو عزوف الكفاءات في مختلف المجالات الحيوية عن العمل السياسي، لكن الأدهى و الأمر أن تجد كفاءات قد انخرطت في السياسة و انتمت إلى أحزاب و لكن تم تهميشها داخل هذه المنظمات لأسباب تنظيمية تتعلق بالولاء للقيادات و مناطق النفوذ داخل الأحزاب.
و سواء أبعد ذوو الكفاءات من المجال السياسي من تلقاء أنفسهم أو أقصوا لأسباب حزبية داخلية، فإن الوطن يخسر الإضافة القيمة التي يقدمها هؤلاء لو تم إشراكهم. إذن يبقى دفع الكفاءات إلى الثقة في السياسة من أهم المهام التي ينبغي أن تضطلع بها الأحزاب.
و على غرار ما يحدث في عالم الأعمال الحرة، بإمكان الأحزاب السياسية أن تعمل على “اقتناص هذه الرؤوس” و استقطاب “العصافير النادرة”. هؤلاء و إن كانوا لا يبرعون في القيادة و المناورة لكن يستطيعون إمداد القادة بكنوز ثمينة من حيث وضع البرامج و ابتكار الحلول و تحليل البيانات و تصميم السياسات و متابعتها. فكيف إذن تجذب الأحزاب هذه الكفاءات و تحتضنها؟
أولا تستفزها و تخاطبها بكونها جزءا من المجتمع و مسؤولة عن الرداءة و البشاعة التي تتم في قطاعاتها.
ثانيا تحفزها بكونها قادرة على الاضطلاع بدورها في المجتمع و تقديم الإضافة النوعية و المساهمة في التغيير. بل ينبغي تحريضها بثقة الوطن في كفاءاتها حيث “ليس هناك ريب البتة في أن بإمكان مجموعة صغيرة من المواطنين الغيورين الملتزمين تغيير العالم من حولهم.”
ثالثا ينبغي وضع برامج تكوين سياسي عالي لهؤلاء سيكون له الأثر في تحسيسهم بأهمية مشاركتهم ثم حثهم على متابعة التجارب العالمية للاستفادة منها.
تكوين جيل الغد
إعداد الجيل القادم هو الكفيل بضمان الاستمرارية الصحيحة لأي مشروع سياسي و مجتمعي. لكن قبل التكوين يجب أولا جذب هؤلاء الشباب و “إغواؤهم” بالعمل السياسي المنظم. هناك شباب نشطون في إطار غير سياسي و هم أقرب للاستقطاب ربما عن طريق دعم أنشطتهم سواء بالتكوين أو بتمويل بعضها من أجل تشجيعهم على عمل المزيد.
و يمكن للحزب أن يتبنى قضايا شبابية مشتركة و يجعلها من ضمن أولوياته و هذا ما سيجلب له المزيد من الشباب الراغب في الانخراط عبر ذات القضايا.
كما ينبغي على قادة الحزب و مؤطريه أن يبادروا لاستكشاف المعاهد والجامعات بحثا عن المواهب على غرار المدربين الرياضيين و المنتجين الفنيين الذين ينقبون عن نجوم المستقبل .
و على المستوى التنظيمي يهتم الحزب بشقه الشبابي و يمنحه نوعا من الاستقلالية في التدبير ليكون فعلا خزانا و مدرسة لقادة المستقبل.
تشغيل الآلة الانتخابية
إن مفهوم الآلة الانتخابية يتجاوز الاستعمال خلال الحملات الانتخابية إلى مفهوم الحملة المستمرة. بمعنى : لكي لا تصاب الآلة بالصدأ ثم العطل ينبغي أن تشتغل باستمرار حتى خارج أوقات الانتخابات.
أول فائدة يجنيها الحزب من تبنيه مبدأ الحملة المستمرة هو احترام المواطنين له حيث يرون حزبا يشتغل على الدوام و ليس مجرد دكان انتخابي مؤقت يفتح عند الاستحقاقات.
أما أحسن تعبير عن نشر الآلة الانتخابية في المجال الترابي فهو عبارة “بيت بيت زنقة زنقة”. و لا داعي للغرابة، فرغم تطور وسائل الاتصال في عصرنا، لا شيء يضاهي قيمة التواصل المباشر مع المواطنين و الاستماع إليهم و فهم انتظاراتهم و تبني مطالبهم المعقولة و المنسجمة مع توجهات الحزب.
و لن يكتمل هذا اللقاء المباشر مع الناس إلا بنزول الصف الأول للقادة بأنفسهم إلى الميدان حيث يشعرون المواطنين بأن هذا القرب هو احترام لمواطنتهم و التزام بوعودهم اتجاههم ويكون رد الجميل من المواطنين هو الثقة في هؤلاء القادة. و حين تبنى هذه الثقة، يكون الحزب قد أنجز مهمته بذلك: فهو خدم الوطن و قوى نفسه و خدم الديمقراطية.
[